الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآية رقم (51): {تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)}فيه إحدى عشرة مسألة. الأولى: قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشاءُ} قرئ مهموزا وغير مهموز، وهما لغتان، يقال: أرجيت الامر وأرجأته إذا أخرته. {وَتُؤْوِي} تضم، يقال: آوى إليه. ممدودة الالف ضم إليه. واوي مقصورة الالف انضم إليه.الثانية: وأختلف العلماء في تأويل هذه الآية، وأصح ما قيل فيها. التوسعة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ترك القسم، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته. وهذا القول هو الذي يناسب ما مضى، وهو الذي ثبت معناه في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقول: أو تهب المرأة نفسها لرجل؟ فلما أنزل الله عز وجل: {تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} قالت: قلت والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. قال ابن العربي: هذا الذي ثبت في الصحيح هو الذي ينبغي أن يعول عليه. والمعنى المراد: هو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مخيرا في أزواجه، إن شاء أن يقسم قسم، وإن شاء أن يترك القسم ترك. فخص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن جعل الامر إليه فيه، لكنه كان يقسم من قبل نفسه دون أن فرض ذلك عليه، تطييبا لنفوسهن، وصونا لهن عن أقوال الغيرة التي تؤدي إلى ما لا ينبغي.وقيل: كان القسم واجبا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم نسخ الوجوب عنه بهذه الآية. قال أبو رزين: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد هم بطلاق بعض نسائه فقلن له: اقسم لنا ما شئت. فكان ممن آوى عائشة وحفصة وام سلمة وزينب، فكان قسمتهن من نفسه وماله سواء بينهن. وكان ممن أرجى سودة وجويرية وام حبيبة وميمونة وصفيه، فكان يقسم لهن ما شاء.وقيل: المراد الواهبات. ورى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ} قالت: هذا في الواهبات أنفسهن. قال الشعبي: هن الواهبات أنفسهن، تزوج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهن وترك منهن.وقال الزهري: ما علمنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرجأ أحدا من أزواجه، بل آواهن كلهن.وقال ابن عباس وغيره: المعنى في طلاق من شاء ممن حصل في عصمته، وإمساك من شاء. وقيل غير هذا. وعلى كل معنى فالآية معناها التوسعة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإباحة. وما اخترناه أصح والله أعلم.الثالثة: ذهب هبة الله في الناسخ والمنسوخ إلى أن قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشاءُ} الآية، ناسخ لقوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] الآية. وقال: ليس في كتاب الله ناسخ تقدم المنسوخ سوى هذا. وكلامه يضعف من جهات. وفي البقرة عدة المتوفي عنها أربعة أشهر وعشر، وهو ناسخ للحول وقد تقدم عليه.الرابعة: قوله تعالى: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} {ابْتَغَيْتَ} طلبت، والابتغاء الطلب. و{عَزَلْتَ} أزلت، والعزلة الإزالة، أي إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن من القسمة وتضمها إليك فلا بأس عليك في ذلك. كذلك حكم الارجاء، فدل أحد الطرفين على الثاني.الخامسة: قوله تعالى: {فَلا جُناحَ عَلَيْكَ} أي لا ميل، يقال: جنحت السفينة أي مالت إلى الأرض. أي لا ميل عليك باللوم والتوبيخ.السادسة: قوله تعالى: {ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} قال قتادة وغيره: أي ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن إذ كان من عندنا، لأنهن إذا علمن أن الفعل من الله قرت أعينهن بذلك ورضين، لان المرء إذا علم أنه لا حق له في شيء كان راضيا بما أوتى منه وإن قل. وإن علم أن له حقا لم يقنعه ما أوتي منه، واشتدت غيرته عليه وعظم حرصه فيه. فكان ما فعل الله لرسوله من تفويض الامر إليه في أحوال أزواجه أقرب إلى رضاهن معه، وإلى استقرار أعينهن بما يسمح به لهن، دون أن تتعلق قلوبهن بأكثر منه. وقرئ: {تقر أعينهن} بضم التاء ونصب الأعين. {وتقر أعينهن} على البناء للمفعول. وكان عليه السلام مع هذا يشدد على نفسه في رعاية التسوية بينهن، تطييبا لقلوبهن- كما قدمناه- ويقول: «اللهم هذه قدرتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعني قلبه، لإيثاره عائشة رضي الله عنها دون أن يكون يظهر ذلك في شيء من فعله.. وكان في مرضه الذي توفي فيه يطاف به محمولا على بيوت أزواجه، إلى أن استأذنهن أن يقيم في بيت عائشة. قالت عائشة: أول ما اشتكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت ميمونة، فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيتها- يعني في بيت عائشة- فأذن له... الحديث، خرجه الصحيح.وفي الصحيح أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليتفقد، يقول: «أين أنا اليوم أين أنا غدا» استبطاء ليوم عائشة رضي الله عنها. قالت: فلما كان يومي قبضه الله تعالى بين سحري ونحري، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السابعة: على الرجل أن يعدل بين نسائه لكل واحدة منهن يوما وليلة، هذا قول عامة العلماء. وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك في الليل دون النهار. ولا يسقط حق الزوجة مرضها ولا حيضها، ويلزمه المقام عندها في يومها وليلتها. وعليه أن يعدل بينهن في مرضه كما يفعل في صحته، إلا أن يعجز عن الحركة فيقيم حيث غلب عليه المرض، فإذا صح استأنف القسم. والإماء والحرائر والكتابيات والمسلمات في ذلك سواء. قال عبد الملك: للحرة ليلتان وللأمة ليلة. وأما السراري فلا قسم بينهن وبين الحرائر، ولا حظ لهن فيه.الثامنة: ولا يجمع بينهن في منزل واحد إلا برضاهن، ولا يدخل لإحداهن في يوم الأخرى وليلتها لغير حاجة. واختلف في دخوله لحاجة وضرورة، فالأكثرون على جوازه، مالك وغيره.وفي كتاب ابن حبيب منعه.وروى ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان، فإذا كان يوم هذه لم يشرب من بيت الأخرى الماء. قال ابن بكير: وحدثنا مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان ماتتا في الطاعون. فأسهم بينهما أيهما تدلى أول.التاسعة: قال مالك: ويعدل بينهن في النفقة والكسوة إذا كن معتدلات الحال، ولا يلزم ذلك في المختلفات المناصب. وأجاز مالك أن يفضل إحداهما في الكسوة على غير وجه الميل. فأما الحب والبغض فخارجان عن الكسب فلا يتأتى العدل فيهما، وهو المعنى بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قسمه: «اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك». أخرجه النسائي وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها.وفي كتاب أبي داود: يعني القلب، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ}. وهذا هو وجه تخصيصه بالذكر هنا، تنبيها منه لنا على أنه يعلم ما في قلوبنا من ميل بعضنا إلى بعض من عندنا من النساء دون بعض، وهو العالم بكل شي {لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ} [آل عمران: 5] {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى} [طه: 7] لكنه سمح في ذلك، إذ لا يستطيع العبد أن يصرف قلبه عن ذلك الميل، وإلى ذلك يعود قوله: {وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}. وقد قيل في قوله: {ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} وهي: العاشرة: أي ذلك أقرب ألا يحزن إذا لم يجمع إحداهن مع الأخرى ويعاين الأثرة والميل.وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل». {وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} توكيد للضمير، أي ويرضين كلهن. وأجاز أبو حاتم والزجاج {وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} على التوكيد للمضمر الذي في {آتَيْتَهُنَّ}. والفراء لا يجيزه، لان المعنى ليس عليه، إذ كان المعنى وترضى كل واحدة منهن، وليس المعنى بما أعطيتهن كلهن. النحاس: والذي قاله حسن.الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ} خبر عام، والإشارة إلى ما في قلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من محبة شخص دون شخص. وكذلك يدخل في المعنى أيضا المؤمنون.وفي البخاري عن عمرو بن العاص أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: «أي الناس أحب إليك؟ فقال: عائشة فقلت: من الرجال؟ قال: أبوها قلت: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب...» فعد رجالا. وقد تقدم القول في القلب بما فيه كفاية في أول البقرة، وفي أول هذه السورة. يروى أن لقمان الحكيم كان عبدا نجارا قال له سيده: اذبح شاة وائتني بأطيبها بضعتين، فأتاه باللسان والقلب. ثم أمره بذبح شاة أخرى فقال له: ألق أخبثها بضعتين، فألقى اللسان والقلب. فقال: أمرتك أن تأتيني بأطيبها بضعتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي بأخبثها بضعتين فألقيت اللسان والقلب؟ فقال: ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا..تفسير الآية رقم (52): {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)}فيه سبع مسائل:الأولى: اختلف العلماء في تأويل قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ} على أقوال سبعة: الأولى: إنها منسوخة بالسنة، والناسخ لها حديث عائشة، قالت: ما مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أحل له النساء. وقد تقدم.الثاني- أنها منسوخه بآية أخرى، روى الطحاوي عن أم سلمة قالت: لم يمت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء من شاء، إلا ذات محرم، وذلك قوله عز وجل: {تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ}. قال النحاس: وهذا والله أعلم أولى ما قيل في الآية، وهو وقول عائشة واحد في النسخ. وقد يجوز أن تكون عائشة أرادت أحل له ذلك بالقرآن. وهو مع هذا قول علي بن أبي طالب وابن عباس وعلي بن الحسين والضحاك. وقد عارض بعض فقهاء الكوفيين فقال: محال أن تنسخ هذه الآية يعني {تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ} {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ} وهي قبلها في المصحف الذي أجمع عليه المسلمون. ورجح قول من قال نسخت بالسنة. قال النحاس: وهذه المعاوضة لا تلزم وقائلها غالط، لان القرآن بمنزلة سورة واحدة، كما صح عن ابن عباس: أنزل الله القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في شهر رمضان. ومبين لك أن اعتراض هذا المعترض لا يلزم أن قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ} [البقرة: 240] منسوخة على قول أهل التأويل- لا نعلم بينهم خلافا- بالآية التي قبلها {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234]: الثالث- أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حظر عليه أن يتزوج على نسائه، لأنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، هذا قول الحسن وابن سيرين وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام. قال النحاس: وهذا القول يجوز أن يكون هكذا ثم نسخ.الرابع- أنه لما حرم عليهن أن يتزوجن بعده حرم عليه أن يتزوج غيرهن، قاله أبو أمامة بن سهل بن حنيف.الخامس- {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ} أي من بعد الأصناف التي سميت، قاله أبي بن كعب وعكرمة وأبو رزين، وهو اختيار محمد بن جرير. ومن قال إن الإباحة كانت له مطلقة قال هنا: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ} معناه لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات. وهذا تأويل فيه بعد. وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة أيضا. وهو القول السادس. قال مجاهد: لئلا تكون كافرة أما للمؤمنين. وهذا القول يبعد، لأنه يقدره: من بعد المسلمات، ولم يجر للمسلمات ذكر. وكذلك قدر {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ} أي ولا أن تطلق مسلمة لتستبدل بها كتابية.السابع- أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان له حلال أن يتزوج من شاء ثم نسخ ذلك. قال: وكذلك كانت الأنبياء قبله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاله محمد بن كعب القرظي.الثانية: قوله تعالى: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ} قال ابن زيد: هذا شيء كانت العرب تفعله، يقول أحدهم: خذ زوجتي وأعطني زوجتك، روى الدارقطني عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: انزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك، فأنزل الله عز وجل: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} قال: فدخل عيينة بن حصن الفزاري على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده عائشة، فدخل بغير إذن، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا عيينة فأين الاستئذان»؟ فقال: يا رسول الله، ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت. قال: من هذه الحميراء إلى جنبك؟ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هذه عائشة أم المؤمنين» قال: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق. فقال: «يا عيينة، إن الله قد حرم ذلك». قال فلما خرج قالت عائشة: يا رسول الله، من هذا؟ قال: «أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه». وقد أنكر الطبري والنحاس وغيرهما ما حكاه ابن زيد عن العرب، من أنها كانت تبادل بأزواجها. قال الطبري: وما فعلت العرب قط هذا. وما روي من حديث عيينة بن حصن من أنه دخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده عائشة... الحديث، فليس بتبديل، ولا أراد ذلك، وإنما أحتقر عائشة لأنها كانت صبية فقال هذا القول. قلت: وما ذكرناه من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة من أن البدل كان في الجاهلية يدل على خلاف ما أنكر من ذلك، والله أعلم. قال المبرد: وقرئ: {لا يَحِلُّ} بالياء والتاء. فمن قرأ بالتاء فعلى معنى جماعة النساء، وبالياء من تحت على معنى جميع النساء. وزعم الفراء قال: اجتمعت القراء على أن القراءة بالياء، وهذا غلط، وكيف يقال: اجتمعت القراء وقد قرأ أبو عمرو بالتاء بلا اختلاف عنه! الثالثة: قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} قال ابن عباس: نزل ذلك بسبب أسماء بنت عميس، أعجب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين مات عنها جعفر بن أبي طالب، حسنها، فأراد أن يتزوجها، فنزلت الآية، وهذا حديث ضعيف قاله ابن العربي.الرابعة: في هذه الآية دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها. وقد أراد المغيرة بن شعبة زواج امرأة، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انظر إليها فإنه أجدر أن يودم بينكما».وقال عليه السلام لآخر: «انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا» أخرجه الصحيح. قال الحميدي وأبو الفرج الجوزي. يعني صفراء أو زرقاء. وقيل رمصاء.الخامسة: الامر بالنظر إلى المخطوبة إنما هو على جهة الإرشاد إلى المصلحة، فإنه إذا نظر إليها فلعله يرى منها ما يرغبه في نكاحها. ومما يدل على أن الامر على جهة الإرشاد ما ذكره أبو داود من حديث جابر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل». فقوله: «فإن استطاع فليفعل» لا يقال مثله في الواجب. وبهذا قال جمهور الفقهاء مالك والشافعي والكوفيون وغيرهم واهل الظاهر. وقد كره ذلك قوم لا مبالاة بقولهم، للأحاديث الصحيحة، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ}.وقال سهل بن أبي حثمة: رأيت محمد بن مسلمة يطارد ثبيتة بنت الضحاك على أجار من أجاجير المدينة فقلت له: أتفعل هذا؟ فقال نعم! قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها». الاجار: السطح، بلغة أهل الشام والحجاز. قال أبو عبيد: وجمع الاجار أجاجير وأجاجرة.السادسة: أختلف فيما يجوز أن ينظر منها، فقال مالك: ينظر إلى وجهها وكفيها، ولا ينظر إلا بإذنها.وقال الشافعي وأحمد: بإذنها وبغير إذنها إذا كانت مستترة.وقال الأوزاعي: ينظر إليها ويجتهد وينظر مواضع اللحم منها. قال داود: ينظر إلى سائر جسدها، تمسكا بظاهر اللفظ. وأصول الشريعة ترد عليه في تحريم الاطلاع على العورة. والله أعلم.السابعة: قوله تعالى: {إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ} اختلف العلماء في إحلال الامة الكافرة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قو لين: تحل لعموم قوله: {إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ}، قاله مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحكم. قالوا: قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ} أي لا تحل لك النساء من غير المسلمات، فأما اليهوديات والنصرانيات والمشركات فحرام عليك، أي لا يحل لك أن تتزوج كافرة فتكون أما للمؤمنين ولو أعجبك حسنها، إلا ما ملكت يمينك، فإن له أن يتسرى بها. القول الثاني- لا تحل، تنزيها لقدره عن مباشرة الكافرة، وقد قال الله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ} [الممتحنة: 10] فكيف به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.و{ما} في قوله: {إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ} في موضع رفع بدل من {النساء}. ويجوز أن يكون في موضع نصب على استثناء، وفية ضعف. ويجوز أن تكون مصدرية، والتقدير: إلا ملك يمينك، وملك بمعنى مملوك، وهو في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول.
|